الصك بدون رصيد في القانون العراقي جريمة تمس الثقة العامة
المحامي/ايوب حميد

جريمة اصدار صك بدون رصيد ليست مجرد ورقة مرفوضة من المصرف بل اعلان عن خلل في المنظومة القانونية والاقتصادية في آن واحد فالصك في الاصل اداة وفاء لا وعد بالدفع والمشرع العراقي كان واضحا حين جرم هذا الفعل في المادة ٤٥٩ من قانون العقوبات وعده اعتداء على الثقة العامة لا على شخص واحد
القانون لم يترك ثغرة نص بوضوح على ان كل من يعطي صكا بسوء نية وليس له مقابل وفاء قائم وقابل للسحب او يسترجع بعد اعطائه المقابل او يأمر بعدم الدفع او يحرر الصك بصورة تمنع صرفه يعاقب بالحبس لكن ما يحدث في الواقع ان آلاف الصكوك تحرر يوميا دون غطاء وتتحول الى ملفات في المحاكم ما يكشف ان الاشكال ليس في النص بل في الردع الفعلي والثقافة القانونية
النية السيئة هي جوهر الجريمة فالمتهم لا يدان لانه عجز عن الدفع بل لانه علم بعدم وجود رصيد وقت اصدار الصك ومع ذلك حرره وسلمه وهنا يتحقق القصد الجرمي حتى لو حاول لاحقا تسوية المبلغ او الايداع بعد الشكوى لذلك استقرت محكمة التمييز على ان الجريمة تقوم بمجرد اصدار الصك وليس عند رفض صرفه
من الاخطاء الشائعة ان تنازل المستفيد يكفي لغلق الدعوى والحقيقة عكس ذلك فالمادة ٤٥٩ جعلت هذه الجريمة من الجرائم التي يتغلب فيها الحق العام على الخاص لان الضرر لا يصيب المشتكي وحده بل الثقة العامة التي تمثل العمود الفقري لأي نظام مالي ولهذا فان التنازل لا ينهي الدعوى تلقائيا وان كان يؤخذ به كعنصر تسوية في تقدير العقوبة
المشرع اراد ان يحمي النظام المالي من الانهيار لذلك ربط الجريمة بالثقة العامة لكن الواقع جعلها تتحول الى وسيلة ضغط تفاوضي تستخدم فيها الشكوى كأداة لتحصيل الدين لا لحماية القانون وهنا تضيع هيبة النص بين التهاون والمساومة
الحل لا يكون بتشديد العقوبة فقط بل باصلاح شامل في مفهوم التعامل بالصك يجب ان يعاد تعريف الصك في الوعي التجاري على انه اداة وفاء فوري وان تفعل الغرامات المالية والعقوبات الاقتصادية اضافة الى العقوبات السالبة للحرية لان الردع الحقيقي لا يتحقق بالعقوبة وحدها بل بمزيج من الجزاء المالي والجنائي يضمن احترام الالتزامات ويصون الثقة بالتعامل
الاثر الاقتصادي لجريمة الصك بدون رصيد لا يتوقف عند حدود المتعاملين فقط بل يمتد الى السوق كله فهي جريمة تزعزع الثقة بالاوراق التجارية وتخلق مناخا من الشك في المعاملات وتجعل كثيرا من التجار يبتعدون عن التعامل بالصكوك ويلجأون الى النقد المباشر مما يقلل من دوران المال في المصارف هذه الظاهرة تضر بالنظام المصرفي وبالثقة في ادوات الائتمان وتؤدي الى ارتفاع نسب المخاطر في السوق خصوصا عندما تصبح الشكوى وسيلة تحصيل وليس وسيلة حماية
اما على المستوى الاجتماعي فانتشار الصكوك بدون رصيد يؤدي الى نزاعات بين الاقارب والشركاء ويزرع الشك في المعاملات اليومية المواطن الذي يحمل صكا مرتجعا لا يخسر ماله فقط بل يخسر ثقته بالمنظومة القانونية والاقتصادية وكلما زادت هذه الحالات ازداد الميل نحو التعامل خارج النظام المصرفي وهذا اخطر ما يمكن ان يصيب اي اقتصاد يحاول ان ينهض
ومن واقع عملي كمحام في بغداد مختص بالقضايا المدنية والتجارية والمصرفية ارى ان التعامل بالصكوك في العراق ما زال يعاني من ضعف الوعي القانوني وان كثيرا من النزاعات يمكن تفاديها بالالتزام بالتعليمات المصرفية وفهم الصك كأداة وفاء لا كوسيلة ائتمان
اما القضاء العراقي فقد تعامل بحزم نسبي مع هذه الجرائم لكنه بقي مقيدا بتقاليد التنازل والصلح محكمة التمييز اصدرت قرارات واضحة تؤكد ان الجريمة تقع بمجرد اصدار الصك بدون رصيد حتى لو تم تسوية المبلغ لاحقا لان القصد الجرمي تحقق بالفعل ومع ذلك فان التطبيق العملي ما زال يواجه ضغوطا اجتماعية وتجارية تدفع نحو انهاء القضايا بالتراضي مما يضعف الاثر الردعي للعقوبة ويحوله النص الى اداة مساومة
القانون العراقي بحاجة الى تطوير متوازن يأخذ بعين الاعتبار واقع السوق واهمية الثقة العامة فالعقوبات يجب ان تجمع بين الردع والواقعية وان تبنى على مبدأ اعادة الثقة لا الانتقام وهذا لا يتحقق الا بسياسة جنائية متكاملة تربط بين العقوبة والوعي المالي وبين الردع القانوني والثقافة المصرفية
في النهاية ليست القضية صكا بلا رصيد بل ثقة والثقة حين تهتز يهتز معها الاقتصاد كله فالقانون الذي لا يردع يفقد هيبته والمجتمع الذي يقبل بالصك بلا رصيد يخسر اثمن ما يملكه الثقة في الكلمة والتوقيع