المحامي والكتب: علاقة لا انفصام لها
المحامي: حيان الخياط/محاكم استئناف الرصافة.
في عالم يموج بالتعقيدات القانونية، ويزداد تشابك الأنظمة واللوائح يوماً بعد يوم، تصبح القراءة بالنسبة للمحامي ليست ترفاً ثقافياً، بل ضرورة وجودية. فالمحامي الذي لا يقرأ، لا يختلف كثيراًَ عن ما يُعرف بـ”المعقّب”؛ ذاك الذي يُكلّف فقط بتمرير المعاملات، والوقوف في طوابير الإجراءات نيابةً عن الآخرين. بل قد يتشابه مع الرجل الآلي الذي بُرمج لأداء مهام محددة لا تحتاج إلى تفكير، يؤدي ما يُطلب منه، لكنه يفتقر إلى جوهر الفهم وروح الاجتهاد.
إن مهنة المحاماة ليست في جوهرها تكراراً للنصوص، ولا استظهاراً للأحكام، بل هي بناء فكري معقد يتطلب فهم السياقات، واستيعاب المتغيرات، والقدرة على التأويل والقياس والاستنباط. وهذه القدرات لا تُكتسب إلا من خلال القراءة المتواصلة، والانغماس في بطون الكتب، ومصاحبة عيون العلماء وأفكار المفكرين.
وليس غريباً أن يكون الكتاب هو الرفيق الأول والأخير للمحامي الذي يدرك قيمة رسالته. فالكتب لا تكتفي بمنح المعلومات، بل تهب صاحبها أدوات التفكير، وتفتح له نوافذ الرؤية، وتمنحه الجرأة على السؤال والبحث. وكلما تعمّق المحامي في القراءة، ازداد يقيناً بأنه لا يعرف كل شيء، وأن ما فاته أكثر مما ناله.
شخصياً، أمتلك مكتبة تحتوي على ما يزيد على الألف كتاب، تتوزع بين فروع القانون، والفقه، والأصول، والفكر، والتاريخ، ومع ذلك كثيراً ما أجدني أمام إشكالات قانونية لا أجد لها جواباً واضحاً فيما بين يديّ من كتب، فأضطر إلى البحث عن مراجع جديدة، وشراء مؤلفات إضافية، وكأني في سباق لا نهاية له مع المعلومة. فكل قضية تطرح سؤالاً جديداً، وكل سؤال يكشف عن نقصٍ ما، يدفعني إلى مزيد من التعلّم.
ولذلك، لا أعتقد أنّ هناك عدداً كافياً من الكتب لمهنة كالمحاماة؛ فالمعرفة فيها ليست هدفاً يُبلغ، بل طريق لا ينتهي. ومن ظن أنه بلغ نهايته، فقد بدأ بالانحدار. أما من أدرك أن كل قراءة تلد سؤالاً، وكل جواب يفتح أبواباً لأسئلة جديدة، فهو وحده من يسير في الطريق الصحيح.
فالكتاب للمحامي أشبه بالبوصلة في بحرٍ متلاطم، ومهما كثرت الكتب حوله، لن تغنيه عن السعي الدائم خلف الحقيقة، ولن تحرره من الحاجة إلى المزيد. إنها علاقة شغف لا تخبو، ومسؤولية لا تعرف الاكتفاء.