انهيار مصرف عراقي يطرق أبواب القضاء: قرار لمحكمة الخدمات المالية يكشف أخطر ملف مالي يهدد البنوك الأهلية
المحامية نور جواد الدليمي
عندما تقدّم البنك المركزي العراقي بطلب لإشهار إفلاس أحد المصارف الأهلية، اعتقد كثيرون أن القرار محسوم مقدماً، وأن المحكمة ستغلق الملف سريعاً استناداً إلى خسائر ضخمة سُجلت في ميزانيات المصرف، وإلى تقارير مفصلة صدرت عن لجان تدقيق ولجان الوصاية. لكن المفاجأة أن محكمة الخدمات المالية — سلطة قضائية مختصة في هذا النوع من النزاعات — اتخذت مساراً قانونياً صادماً، قلب التوقعات رأساً على عقب، وأعاد رسم الحدود بين مفهوم «الإفلاس» وبين مسؤولية الجهات الرقابية عن تأهيل المؤسسات المصرفية ومعالجة إخفاقاتها قبل الوصول إلى مرحلة الانهيار الكامل.
في هذا القرار الصادم، الذي يعتمد على صفحات طويلة من المداولات، تكشف المحكمة أن الإفلاس ليس مجرد رقم أحمر في القوائم المالية، بل منظومة معقدة من الإجراءات، والشروط القانونية، والواجبات المتبادلة بين المصرف الخاسر، والبنك المركزي، والجهات الرقابية، والوصي على المصرف، وكلها يجب أن تُستكمل قبل أن يُنطق بكلمة «مفلس». وهنا يكمن جوهر القرار: لم يكن الإفلاس نتيجة مالية فقط، بل نتيجة قانونية يجب أن تتحقق شروطها بدقة.
بين الخسائر والواجبات: لماذا لا يكفي أن يخسر المصرف مئات المليارات لإعلان إفلاسه؟
في ظاهر الأمر، الأرقام صادمة: خسائر تتجاوز 177 مليار دينار خلال سنوات، وانخفاض جذري في نشاط المصرف، وتراجع في قدرته على الوفاء بالتزاماته. لكن المحكمة وضعت معياراً مهماً يغير طريقة فهم الإفلاس في العراق، إذ أكدت أن الخسارة – حتى لو بلغت مئات المليارات – لا تكفي وحدها لإعلان الإفلاس ما لم يثبت للمحكمة أن المصرف «عاجز فعلياُ» عن سداد ديونه «عجزاُ لا رجعة فيه»، وأن البنك المركزي استنفد جميع الوسائل لإعادة تأهيله وفقاً لقانون المصارف.
وبينما قدم البنك المركزي تقارير تُظهر ضعف المصرف، إلا أن المحكمة لاحظت أن إجراءات الوصاية لم تصل إلى نهاياتها القانونية الحتمية، وأن بعض عمليات المتابعة والتقييم لم تثبت بالدليل القاطع أن المصرف بات «فاقداً لأهلية العمل المصرفي»، وهو معيار قانوني شديد التعقيد لا يمكن استنتاجه من رقم مالي فقط.
وبذلك، وضعت المحكمة حداً فاصلاً بين «الخسارة» وبين «الإفلاس»، مؤكدة أن الإفلاس ليس عقوبة بل حالة قانونية محددة بشروط، ولا يجوز أن يُستخدم كأداة لتصفية المصارف قبل استكمال جميع مراحل الإصلاح المفروضة على البنك المركزي نفسه.
لجان التقييم ليست فوق القانون: كيف أعادت المحكمة تعريف وزن التقارير الفنية؟
تضمن الملف عشرات التقارير الصادرة عن لجان تفتيش وتقييم داخل البنك المركزي، بعضها يشير إلى تجاوزات خطيرة، وبعضها يؤكد تراجعاً مالياً لا يمكن تجاهله. لكن المفاجأة التي فاجأت الكثيرين أن المحكمة لم تتعامل مع هذه التقارير كحقيقة نهائية، بل وضعتها تحت مجهر رقابي دقيق. وصرّحت في متن حكمها أن «التقارير الفنية لا تعني تحقق شروط الإفلاس ما لم ترتبط بسياق قانوني مكتمل».
هذا يعني أن المحكمة ترى أن دور لجان التقييم مهم لكنه غير حاسم، وأنه لا يمكن اعتبارها بديلاً عن إجراءات الوصاية المنصوص عليها في قانون المصارف، والتي تُعد المرحلة القانونية الجوهرية التي تسبق أي قرار بالإفلاس. كما أوضحت المحكمة أن اللجان يجب أن تُظهر بالدليل أن المصرف خسر «قدرة الاستمرار» وليس فقط «الأموال»، وهذا فرق جوهري في المنطق القانوني.
بذلك، أعادت المحكمة تعريف علاقة السلطة القضائية بالسلطة الرقابية، ووضعت ضوابط تمنع تحويل التقارير الإدارية إلى أحكام قضائية جاهزة.
الإفلاس كمسار وليس حدثاً: لماذا رفضت المحكمة الطلب رغم وضوح الخسائر؟
في جوهر التحليل القضائي، تؤكد المحكمة أن إجراءات الإفلاس ليست مجرد خطوة واحدة، بل مسار متكامل يجب أن يبدأ بالوصاية، مروراً بمحاولات إعادة الهيكلة، ثم بالتحقق من عجز المصرف النهائي عن الإيفاء بالتزاماته. ولأن هذه الخطوات لم تُستكمل بالشكل القانوني الصحيح، فإن المحكمة ترى أن قبول طلب الإفلاس سيكون «إعداماً مؤسسياً» قبل استنفاد وسائل الإنقاذ.
وتضيف المحكمة في قرارها فكرة مهمة جدًا: أن الإفلاس، حين يصدر، لا يلحق الضرر بالمصرف وحده، بل بالموظفين، والمودعين، والقطاع المالي، والاستقرار الاقتصادي. لذلك، فإن الإفلاس ليس خياراً إدارياً، بل خياراً محكوماً بضوابط قضائية دقيقة.
وفي لحظة حاسمة داخل الحكم، تقول المحكمة إن «مركز المصرف المالي رغم ضعفه لا يثبت العجز النهائي»، وهي جملة تلخص كل شيء: الخسائر ليست نهاية القصة، القانون هو النهاية.
ما الذي يعنيه هذا القرار للقطاع المصرفي العراقي وللمودعين والمستثمرين؟
يكشف الحكم عن تحول مهم في العقل القضائي العراقي: أن المحكمة لم تعد تتعامل مع الإفلاس كحلّ سريع، بل كآخر دواء لا يُستخدم إلا بعد استنفاد كل السبل الأخرى. وهذا التوجه يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى حماية النظام المالي من الانهيارات غير المدروسة، وإعطاء المصارف فرصة للعودة إلى العمل، ما دام القانون يسمح بذلك.
بالنسبة للمودعين، القرار يعطي رسالة واضحة: الإفلاس ليس قراراً إدارياً لحظياً، والمحكمة لن تسمح بإغلاق مصرف ما لم تتأكد من أن جميع مراحل التأهيل قد فشلت بالفعل.
وبالنسبة للمستثمرين، يقدم القرار إشارة على أن بيئة القضاء المالي في العراق أكثر نضجاً واستقلالية ودقة، وأن مصير المؤسسات المالية لن يُترك للتقديرات السريعة، بل سيخضع لتحقيقات معمقة تحفظ التوازن بين التنظيم المالي وحقوق المودعين.
المشهد الأخير: عندما قلبت محكمة الاستئناف الطاولة: قرار تمييزي يثبت أن إفلاس المصرف لم يكن ادعاءً عابراً
لم يكن مسار الدعوى مستقراً كما تخيّل البعض، فبينما أصدرت محكمة الخدمات المالية قرارها الأول برفض طلب البنك المركزي لإشهار إفلاس المصرف الأهلي، جاءت محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية لتقلب المشهد القانوني بالكامل، معلنةً أن ما ورد في ملف الدعوى لا يمكن تجاهله، وأن طلب الإفلاس يمتلك سنداً واقعياً وقانونياً يستوجب إعادة النظر جذرياً. هذا القرار التمييزي لم يكن مجرد إشارة إجرائية، بل كان بمثابة إعلان واضح بأن مؤشرات التعثر المالي والاضطراب في إدارة التزامات المصرف لم تكن مجرد احتمالات، بل وقائع ذات دلالة تستدعي إعادة تكييف القرار على نحو ينسجم مع مصلحة النظام المالي ومعايير حماية أموال المودعين.
وقد وجدت محكمة الخدمات المالية نفسها أمام توجيه ملزم، فأعادت المرافعة واتبعت قرار محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية، لتصدر لاحقاً حكماً جديداً يتجه نحو السماح بطلب إعلان الإفلاس، في خطوة تعكس مدى حساسية هذا النوع من القضايا التي تمسّ جوهر القطاع المصرفي في العراق. هذا التحول يكشف للقارئ المتخصص ولصاحب المصرف الاهلي أن دعاوى الإفلاس المصرفي ليست مجرد منازعات تقنية، بل هي مساحة تتقاطع فيها رقابة البنك المركزي مع استقلال القضاء، وتتطلب محامياً متخصصاً في دعاوى محكمة الخدمات المالية وملماً بأدق معايير قانون المصارف وقدرته على قراءة الملف الرقابي قبل الملف القضائي. هنا فقط ندرك كيف يمكن لقرار تمييزي واحد أن يعيد صياغة مصير مصرف كامل، وكيف يكون للمرافعة والتحليل القانوني دور مصيري في هذا النوع من القضايا عالية الحساسية.
خاتمة: حين يكون اختيار المحامي قراراً استثمارياً بحد ذاته
في القضايا المرتبطة بمحكمة الخدمات المالية، وفي النزاعات المصرفية المعقدة، وفي الدعاوى التي يختلط فيها القانون بالتقييم المالي وبقرارات البنك المركزي، يصبح وجود محامٍ يمتلك الفهم الدقيق لهذه المسارات ضرورة لا يمكن التهاون بها. وإن كنت تبحث عن أفضل محامي في بغداد، أو تريد الوصول إلى أفضل محامٍ متخصص في دعاوى محكمة الخدمات المالية، أو تبحث عن أفضل محامي مصارف في العراق يمتلك القدرة على قراءة قرارات الإفلاس، وتحليل ميزانيات المصارف، والتعامل مع تعليمات البنك المركزي—فإننا لا ندّعي أننا الأفضل ولا نزاحم أحدًا على هذا اللقب، لكننا نرحب بجميع استشاراتكم وطلبات التوكل عنكم، لتكونوا أنتم من يقرر، ولتروا بأنفسكم مستوى التحليل، وطريقة العمل، والنهج القانوني الذي نعتمده في معالجة هذه الملفات ذات الحساسية البالغة.
