الصك بين الحقيقة القانونية والواقع: هل هو أداة وفاء أم أداة ضمان؟ مدخل الى الاشكالية المتكررة في دعاوى الصكوك
المحامية نور جواد الدليمي
كلما حضرت أمام محاكم التحقيق أو الجنح في دعاوى الصكوك، يتكرر على مسامعي المشهد ذاته تقريباً: متهم يقف بثقة يظنّها مقنعة، ويتشبث بحجة تكاد تكون نسخة مكررة عن سائر الدعاوى، فيقول: “المشتكي يعرف أنني لا أملك رصيداً… فلماذا يُسألني القانون؟” ورغم أن هذه العبارة تحمل من الناحية الشعبية شيئاً من المنطق البسيط الذي اعتاده الناس في معاملات اليوميات والعلاقات الشخصية، إلا أنها في ميزان القانون لا تمثّل سوى محاولة لتبرير فعل مجرّم بنص صريح. إن القانون لا يتعامل مع النوايا أو المجاملات أو المعرفة الشخصية، بل مع واقع قانوني محدّد يقوم على حماية الثقة المالية وضمان استقرار المعاملات، ولذلك يُعدّ إعطاء صك بدون رصيد جريمة واضحة بموجب المادة (459) من قانون العقوبات العراقي.
في الحقيقة، لا تنبع خطورة هذا الفعل من مجرد انعدام الرصيد، بل من الإخلال العميق بمبدأ الثقة العامة في التعاملات المالية. فالصك في نظر القانون ليس مجرد قطعة ورق تحمل قيمة محتملة، بل هو التزام مالي فوري يُفترض أن يعادل قيمة النقود ذاتها، وهذا ما يغيب عن كثير من المتعاملين حين يظنون أن الصك يمكن أن يكون وعداً بالسداد أو ضماناً بانتظار توفر المال.
الصك كأداة وفاء: الفكرة القانونية الحاسمة
حين يسأل البعض: هل الصك أداة وفاء أم أداة ضمان؟ تبدو الإجابة للقانونيين بديهية، لكنها في الواقع من أكثر النقاط التي يختلط فيها الفهم على الناس. فالقانون العراقي، وسائر التشريعات المالية الحديثة، يعتبر الصك أداة وفاء حقيقية لا تختلف في قيمتها القانونية عن النقود. فإصدار الصك يعني أن محرّره يُلزم نفسه التزاماً فورياً بأن لدى حسابه رصيداً قائماً يكفي لتغطية قيمة الصك في اللحظة التي يسلّمه فيها للغير.
الصك ليس تعهّداً مستقبلياً ولا وعداً مشروطاً ولا ورقة ضمان تُستخدم لتأجيل السداد أو لتسكين خلافات مؤقتة. إنه نقد مكتوب. وما دامت الثقة في التعامل المالي قائمة على اليقين، لا يمكن أن يقبل القانون بصك “قد يكون” مغطّى أو “قد لا يكون”، لأن هذا التردد يضرب فكرة النقد ذاتها. وقد لخّص أحد الفقهاء هذه الحقيقة بعبارة مختصرة حين قال: “قيمة الصك ليست في ورقته، بل في الثقة التي يحميها القانون”.
سبب الصرامة التشريعية: حماية النظام المالي لا معاقبة الأشخاص
حين يُصرّ المتهم على القول بأن المشتكي كان يعلم بظروفه، فهو يعيد النقاش كله إلى مستوى العلاقات الشخصية، بينما ترتبط جريمة الصك بسلامة منظومة مالية كاملة. فالتعامل بالصكوك يشبه في جوهره التعامل بالنقود، وإذا انهارت الثقة فيها تضررت السوق، وتعطلت التجارة، واهتزّت مصالح المواطنين والبنوك على حد سواء. ولهذا لا يسمح القانون باستعمال الصك كورقة مساومة أو كوسيلة ضغط أو كحل مؤقت لتأجيل المسؤوليات، بل يعامله كنقد واجب الوفاء. فالتساهل في هذا الجانب يُلحق الضرر بالاقتصاد قبل الأفراد، ويقوّض الأساس الذي يقوم عليه التعامل المصرفي.
ومن هنا، لم تكن الصرامة في المادة (459) من قانون العقوبات العراقي نزوة تشريعية، بل ضرورة لحماية الثقة العامة. فالمشرّع يعاقب محرّر الصك بلا رصيد، لأنه يتعامل مع فعل يقارب إعطاء نقود مزيفة، وكلاهما يهز النظام المالي ويخدع المتعاملين ويزرع الفوضى في السوق.
حجة “علم المشتكي” ولماذا لا قيمة قانونية لها
من أكثر ما يثير اللبس لدى المتهمين في هذه الدعاوى هو تمسكهم بفكرة أن المشتكي كان يعلم بعدم وجود رصيد في حسابهم. وهي حجة قد تحمل معنى اجتماعياً لكنها لا تحمل أي وزن قانوني، لأن المشرّع لم يعلّق الجريمة على علم المشتكي، بل على فعل محرّر الصك نفسه. فالجريمة تتحقق بمجرد تحرير الصك وتسليمه، وليس عند تقديمه للبنك.
بل إن القول بعلم المشتكي، لو اعتدّ به القانون، لحوّل الصك إلى ورقة خاضعة لاحتمالات شخصية لا يمكن ضبطها تشريعياً. ولو كان الصك وعداً بالسداد لما احتاج المشرّع إلى تجريم هذا الفعل أصلاً. ولذلك فإن القضاء يتعامل مع هذا الدفع باعتباره غير منتج، لأن المسؤولية قائمة على فعل محرّر الصك وعلى إخلاله بالثقة المتمثلة بتسليم صك يفترض أن يكون نقداً حاضراً، وهو في الحقيقة بلا رصيد.
المادة (459) من قانون العقوبات: حجر الأساس في حماية الثقة
تنص المادة 459 بشكل واضح على تجريم كل من يصدر أو يحرّر صكاً دون وجود رصيد قائم قابل للسحب. وهذا التجريم لا يتوقف عند عنصر انعدام الرصيد فقط، بل يتسع ليشمل سوء النية وإرباك التعاملات المصرفية وزعزعة الثقة العامة. فالقانون ينظر إلى الصك باعتباره أداة دفع فوري، ويعتبر إساءة استخدامه خدشاً للثقة الاقتصادية التي يعتمد عليها الأفراد والشركات.
إن هذه المادة ليست تفصيلاً في قانون العقوبات، بل واحدة من أكثر النصوص التي طبّقت أمام المحاكم العراقية لأنها تمسّ حاجة اقتصادية يومية، ويرتبط بها ملايين الدنانير من معاملات الناس في البيع والشراء والاستثمار. ولهذا نجد القضاء متشدداً في تطبيقها، لأن أي تراخٍ في هذا الجانب قد يسمح بانتشار الفوضى الاقتصادية على أوسع نطاق.
لماذا يصعب الدفاع في جريمة إعطاء صك بدون رصيد؟
الصعوبة لا تنشأ من ضعف المتهم أو سوء حالته المالية، بل من قوة النص القانوني والغاية الاقتصادية التي وُضع من أجلها. فالقاضي لا يقيس صدق النوايا، ولا يلتفت إلى أعذار من قبيل “ظروف مؤقتة” أو “اتفاق شخصي” أو “معرفة مسبقة”. كل ذلك لا يغيّر شيئاً من أن الصك يمثل مالاً جاهزاً للوفاء. وإذا كان هذا المال غير موجود، فإن الفعل مجرّم بنص لا يسمح بالالتفاف عليه.
ولهذا يجد المحامي نفسه أمام نص صريح لا يمكن كسره بالمرافعات العاطفية أو الحجج المبنية على العلاقات الاجتماعية. إن الدفاع هنا تقني ودقيق، ولا يمكن أن ينجح إلا في حالات خاصة جداً ترتبط بإشكالات شكلية أو بطلان في الإجراءات، لا بجوهر الفعل ذاته.
الخاتمة
إن التعامل بالصكوك يتطلب وعياً قانونياً واضحاً، لأن الصك ليس وعداً ولا ضمانة مؤقتة، بل هو نقد مكتوب يحمّلك التزاماً فورياً. وكل من يتعامل بالصك دون معرفة هذا المعنى يعرض نفسه لمساءلة جنائية صريحة لا ينفع معها القول بأن “الطرف الآخر كان يعلم”. فالقانون يحمي الثقة، والثقة هي رأس مال التعاملات المالية.
وكل من يحرّر صكاً بلا رصيد يضع نفسه، قبل غيره، أمام مسؤولية جنائية لا مفرّ منها.
لمن يرغب بالاستشارة
إذا كانت لديك دعوى صك، أو كنت تواجه مشكلة قانونية تتعلق بأي من الجرائم الجزائية، فلا تتردد بطلب المشورة من المحامية نور جواد الدليمي التي تمتلك خبرة واسعة في هذا النوع من الدعاوى وفي العمل الجزائي عمومًا. ويسعدها استقبال استفساراتكم والرد على أسئلتكم وتقديم التوجيه القانوني المناسب، ويمكنكم التواصل مباشرة عبر الهاتف:
+964 770 892 0547
