تعليمات تنفيذ العقود العامة رقم (1) لسنة 2025
|

العقد الذي أسقط ملايين الدنانير… وكيف خسر مقاول دعواه رغم أن الدولة استلمت تجهيزاته بالكامل

المحامية نور جواد الدليمي

واقعة حقيقية تهزّ كل مستثمر ومقاول: كيف خسرت شركة عراقية ملايين الدنانير أمام القضاء رغم ثبوت التجهيز؟

في عالم العقود الحكومية، ليست الكارثة أن تخسر صفقة، بل أن تخسر دعوى قضائية رغم أن الدولة استلمت تجهيزاتك، واستخدمتها، واعترفت بوجودها، ثم يقف القضاء في نهاية المطاف ليقول لك: “دعواك فاقدة للسند القانوني”.

هذه ليست مبالغة ولا سيناريو في مسلسل قانوني، بل واقعة حقيقية حدثت أمام محكمة التمييز الاتحادية، وصدرت فيها أحكام متعاقبة استمرت لسنوات، وانتهت بخسارة المقاول لكل شيء، فقط لأنه – ودون أن يدري – سلك طريقاً غير قانوني عند التعاقد مع جهة حكومية.

من يقرأ هذه القصة سيُدرك أن السوق العراقية لم تعد كما كانت، وأن تعليمات تنفيذ العقود العامة رقم (1) لسنة 2025 – التي صدرت مؤخراً وستطبق بعد اشهر قليلة – ليست نصوصاً للقراءة، بل سياجاً حديدياً، من يعبره دون ضوابط، يخسر أمواله مهما كان حجم التجهيز ومهما كانت عدالة مطالبه.

كيف بدأت القصة… وكيف انتهت الكارثة؟

تبدأ الحكاية مع مالك محل في ميسان يقوم بتجهيز دائرة حكومية بأدوات احتياطية للكابسات والمعدات الثقيلة على مدى أكثر من عام، وبمبالغ وصلت إلى 486 مليون دينار. التجهيز تم بناءً على طلبات رسمية، ووصولات استلام، وسلف صرفتها الدائرة فعلاً. لكن عندما حان وقت السداد، رفعت الدائرة يدها وقالت عبارتها الشهيرة: “مصروفات سنوات سابقة، ولا يمكن صرفها”.

لجأ الرجل إلى القضاء، فأقامت محكمة البداءة حكماً لصالحه بجزء من المبلغ، ثم أيدته الاستئناف، ثم صدقته التمييز. ثم نُقض تصحيحاً، ثم أعيد، ثم أُعيد نقضه، ثم صُدّق، ثم نُقض للمرة الثالثة. سنوات من التقاضي، ومرافعات، ثم مرافعات مضادة، حتى وصلت القضية إلى الهيئة الموسعة المدنية، التي وضعت النقطة الأخيرة في هذا الملف الطويل:

ردّ الدعوى بالكامل.

الخطأ القاتل الذي أطاح بكل شيء

لم يكن الإشكال في التجهيز نفسه، ولا في وصولات الاستلام، ولا في وجود البضاعة في مخازن الدائرة، ولا في حاجة الجهات الحكومية لها. كانت الكارثة في شيء واحد فقط: أن التعاقد لم يتم وفق الإجراءات القانونية المنصوص عليها في تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم 2 لسنة 2014، وهي التعليمات التي كانت نافذة وقت إتمام التجهيز.

لم يكن هناك عقد حكومي صحيح، ولا إحالة أصولية، ولا مسار قانوني كامل يبدأ بإعلان وينتهي بمحضر إحالة. كان هناك تعامل قائم على “لجنة مشتريات” اشترت من صاحب المحل بشكل مباشر، خارج إطار النظام القانوني الملزم. ورغم أن الدائرة نفسها جزء من الخطأ، فإن القانون هنا لا يرحم، ولا يعترف بمبدأ “حسن النية” أو “الواقعية” عندما يتعلق الأمر بالعقود الحكومية.

القضاء قالها بوضوح: عندما يكون أصل التعاقد غير قانوني، لا تنفع كل الأدلة اللاحقة حتى لو كانت الدائرة قد استفادت مادياً بشكل كامل من تجهيزاتك.

عقود الدولة ليست عقوداً مدنية عادية… إنها منظومة صارمة

الدرس الأخطر في هذه القضية هو أن المتعاملين مع الدولة ما زالوا ينظرون إلى الشراء الحكومي كأنه عملية تجارية عادية: طلبات شراء، وصولات استلام، لجنة مشتريات، محضر فحص… لكن كل هذا لا يساوي شيئاً إذا لم يكن مبنياً على تعاقد حكومي أصولي.

فالعقود الحكومية تسير وفق نظام خاص لا يحتمل المجاملة ولا الاستثناء. ولو كانت إرادة الدولة وحدها تكفي، لربحت هذه الدعوى منذ أول جلسة.

لكن في العقود مع الدولة، الإجراء هو القانون، وعدم اتباعه يعني سقوط العقد ولو بعد سنوات، وهذا بالضبط ما حصل.

تعليمات تنفيذ العقود العامة رقم (1) لسنة 2025… السور الذي لا يجوز القفز من فوقه

مع صدور تعليمات تنفيذ العقود العامة رقم (1) لسنة 2025، ستصبح الدولة أكثر تشدداً، والقضاء أكثر حسماً، والمسؤولية على المستثمر والمورد أكبر بكثير. هذه التعليمات ليست مجرد تحديث للنصوص القديمة، بل هي نظام شامل للرقابة، الشفافية، وآليات الإحالة.

لذلك، فإن أي عملية تجهيز أو توريد تتم خارج أحد المسارات القانونية المحددة ستواجه المصير نفسه: عدم الاعتراف، وسقوط المطالبة، وردّ الدعوى، مهما كانت الأدلة قوية.

كيف تحمي شركتك من هذا المصير؟

الحماية لا تأتي من العلاقات، ولا من الوصولات، ولا من “توقيع اللجنة”. الحماية تأتي من شيء واحد:

محامٍ متخصص بالعقود الحكومية، يعرف تعليمات تنفيذ العقود العامة رقم (1) لسنة 2025 كما يعرف اسمه، ويقرأ المخاطر قبل أن تحدث، ويغلق الثغرات قبل أن تتسع.

المحامي المتخصص لا يحمي شركتك في المحكمة فقط، بل يحميها قبل أن توقع، وقبل أن تسلّم، وقبل أن تبدأ المشروع. فالتفكير القانوني الصحيح يبدأ من اللحظة الأولى، لا بعد وقوع الضرر.الختام

المحامية نور جواد الدليمي